الذاكرة و الأندلس: الفلامنكو مثالا
يصعب الحديث هذه الأيام عن الفن...تتوالى المؤامرات على فلسطين و حينما نتحدث عن الأندلس، هناك من يعتبر الاهتمام المفرط بالغناء و الموسيقى و غيرها من الفنون سببا في السقوط و في انهيار المجتمع الأندلسي.
سأحاول أن أتكلم عن هذا الموضوع على صعوبته معتمدا على سعة صدر القراء و مطالعتهم لما بين السطور...
كان الموضوع يثير دائما اهتمامي ربما لحبي الكبير للفن و لرفضي أن نربطه بالفشل و الخسارة و الانهيار و الانبطاح و السقوط و النكبة و غيرها من الأحاسيس و التجارب السلبية التي تعترض مجتمعا في زمن ما..
ما يجب أن نعرفه أنه هناك فن و فن، فالفن الهادف يُرقّي الذوق و يشحذ الهمم و يشجع على بناء النفس و بناء المجتمع كما أنه يغذي الذاكرة. نَعم الذاكرة و هي بيت القصيد.
أعتبر أن الفلامينكو إحدى أجمل التعبيرات عن قدرة الفن في الحفاظ على الذاكرة..
و سأشارككم هنا بعض نتائج البحوث التاريخية و اللغوية للدكتور أنطونيو مانويل الذي له مقاربة استثنائية بكل المقادير للمسألة الأندلسية.
لنبدأ بالبداية. الكلمة. و في اللغة هي أداة التعبير. فالشيء الذي نتمكن من تسميته موجود و ما لا نسميه غائب، منسي، مختفي و كأنه لم يوجد يوما.
الفلامينكو أصلها كلمة فلاح منگوس و في الأصح فلاح منكوب. فالفلاح أكثر الناس ارتباطا بالأرض و المنكوب من فقد كل شيء، ممتلكاته و هويته و لغته و دينه. هي النكبة في أقسى تجلياتها. و هنا نرى أن من بقي في الأندلس بعد الطرد و التنكيل هم في الغالب أبسط الأندلسين و أقلهم جاها و سندا...و بالتالي جزء كبير منهم كان يمتهن الزراعة.
الآن كيف عبروا عن النكبة عبر الفلامنكو؟ أقرب التعابير لما عاشه الفلاحون المنكوبون هو كلمتان:
آي Ay: و هو تعبير عن الألم. و مستوى الألم بطول الآهة. هذه الكلمة تُستعمل في الفلامنكو كثيرا، في مداخل الأغاني و في أواخرها و يبرع فيها المؤدي يتطويل الآهة و كأنها تتماوج آخذة قوتها من الألم الدفين و هو بقيمة الخسارة و ما أفدحها من خسارة.
أولي Óle: و هو تحويل لاسم الجلالة فأصلها كلمة الله (عز و جل). و كان الأندلسيون كثيرو الإمالة مما حول ala إلى élé ثم óle بتمويج الكلمة لتتبع الإيقاع.
كان الفلاح المنكوب يفعل كل شيء لإخفاء نواياه و إيمانه و لغته و لما يكون وحيدا يستعمل كل ما بقي له و هو حنجرة حزينة و يدان تُصفِّقان و تدعوان.
و قد ورث أبناء الفلاح الأندلسي المنكوب هذا التقليد و فقدوا بعد أجيال معناه ليصبح تقليداً فارغا من السبب و لكن دون خسارة حركاته و همساته و خصوصياته فتحول الدعاء إلى غناء و تحول الدعاء باليدين إلى حركة شبيهة (جمع اليدين إلى الأعلى كما التضرع، شاهدوا الصور المرفقة) و تحولت الشهادة إلى حركة عفوية بالسبابة لا تخلو منها أغنية للفلامينكو (شاهدوا الصور المرفقة) . حافظ أحفاد الفلاح على الحركات بعفوية و فقدوا المعنى و لكن إعطاء المعنى لهؤلاء اليوم سيجعلهم يفهمون الكثير من تقاليدهم.
و أصبح الأحفاد يقولون آي و أولي بل و صدروا كلمة أولي لكل المجتمع الإسباني اليوم الذي يستعملها في الملاعب و في المسارح و في مصارعة الثيران و في الأعياد و غيرها.
كما ولَّى الأحفاد يغنون الصوليا (إحدى أشكال الفلامنكو) و أصلها كلمة صلوات و ميزانها قريب من الآذان (و يكرر فيها المغني الكلمات أربع مرات تماما كما التكبير في بداية الآذان). و يغنون المرتينيتي (إحدى أشكال الفلامنكو) و أصلها كلمة مرَّتيْن، و ميزانها قريب من الإقامة (و يكرر فيها المغني الكلمات مرتين تماما كما التكبير في بداية الإقامة).
و يستعمل اليوم مغنو الفلامنكو الكثير من الكلمات دون معرفة أصولها العربية و هناك شيء غريب في الفلامنكو و هو متواجد في المجتمع الجنوب الإسباني بشكل عام و إن كان بحدة أقل. حيث تُنطق بعض الحروف بشكل مختلف بين مناطق أندالوسيا (جنوب الأندلس). أ تعرفون لماذا مثلا نطق حرف S يختلف؟
فُرض على المورسكيين المتبقين بالأندلس الكلام بالإسبانية و مُنعت العربية بالسيف.
فكان الأندلسيون يترجمون الكلمات الإسبانية بكتابة عربية ليتمكنوا من حفظها و مراجعتها إن شاؤوا فهناك من كتب S بالسين و هناك من كتبها بالصاد و هناك من كتبها بالشين بل هناك من ظن الS كحرف ح.
و كما حفظوا الحرف نطقوه و هكذا فعل أولادهم إلى اليوم مما جعل منطقة جنوب إسبانيا الأكثر غنىً باللكنات حيث أن أصل هذه اللكنات هو اختلاف الترجمة للعربية في الأصل...
أعترف بحبي للفلامنكو الذي زاد زخما بتعرفي على خصوصياته التاريخة و الأنتربولجية.
أرجو أن أكون قد شاركتكم حبي لهذا النوع الموسيقي و أرجو أن أكون شجعتكم لسماعه فهو ليس سبب سقوط الأندلس (أو الغناء عموما) بل لسقوطه أسباب أخرى أهم و أعمق.
الفلامينكو هو همزة الوصل لكل منكوبي الأندلس مع هويتهم و دينهم و أصولهم. هو الذاكرة.
؛
No comments:
Post a Comment
اكتب تعليق حول الموضوع