من فترة لأخرى أقابل حالات دخلت نتيجة حوادث أو إصابات بالمخ في وضع يسمى vegetative state
الحالة دي وضع صعب للغاية لأن المصاب فيها بيكون فقط على قيد الحياة ، لكن باقي وظائف جسمه الحيوية يقوم بها الآخرون من حوله ليبقوه حيا لفترة أطول
يقوم اطباء الانف والاذن بعمل انبوبة شق حنجري ليتنفس المريض من خلالها ، نقوم نحن اطباء الجراحة بتركيب انبوبة من خلال البطن الى المعدة ليحقن للمريض من خلالها اطعمة مخلوطة تغذي جسمه و يتبول عن طريق قسطرة ويتم تفريغ البراز من جسمه عن طريق حقن شرجية ، يتم تقليبه في الفراش حتى لا يصاب بتقرحات ! الصعب في الأمر أن المريض قد يستمر على هذه الحالة شهور وسنوات كاملة ، يبقيه محبوه فقط على قيد الحياة بما يقدمونه له
قابلت الكثيرين بهذا الشكل ، لكن أصعبهم كان شابا اصيب بحادث اصطدام بالرأس ودخل في هذه الحالة ، وحين رأيته كان قد جاوز شهره التاسع على هذا الوضع !!
تسعة شهور كاملة من وفاء الأهل وتحمل النفقات والمشاق حبا في ابنهم ذي الثلاثة العشرين عاما
ثم ماذا ؟ .. مع الوقت يفقد الجميع الأمل ، ويصبح الأمر عبئا ، وتساور ذوو المريض أفكار حول التوقف وتبدأ الأسئلة عن الموت الرحيم !!
هنا لا بد أن أنحني احتراما لتلك الأم العظيمة التي ولد ابنها مصابا بضمور في المخ ، كل جسمه جثة هامدة ا عدا بضع حركات في الرأس ، لا زالت تحمله وتطوف به على المستشفيات عند مرضه ، تطعمه وتكسوه وتنظفه ، لا يبادلها الحب بشكل حميمي كحضن او ابتسامة ، لكنها اعتادت منه معاني الحب بايماءات وتغيرات في شكل الوجه !
قابلتها ذات يوم تبكي بحرقة وقد اصيب بالتهاب رئوي حاد قد يكون مميتا في مثل هذه الحالات ، كانت تعابير وجهها تشي بذعر خوف الفقد ، لقد امتلأ قلبها الرحيم بحب لا يمكن تصوره تجاه هذا الابن الذي يبدو عبئا في نظر الكثيرين من حولها ، لكن الرحمة التي امتلكها قلب هذا الأم كانت أوسع كثيرا من ظنون المحيطين
لكن أغرب ما رأيت ممن دخلوا في هذه الحالة ، تقرير قصير عن طفل دخل في غيبوبة وفقد الأطباء فيه الأمل ، أخبروا أبويه أنه لن يعود وأن مسألة موته محتومة لكن قد تطول !!
أودع الولد غرفته في بيت والديه منذ ان كان في الثانية عشرة من عمره ، كان كل ما يبقيه حيا هو رعايتهما له على النحو الذي ذكرت ، يطعمانه ويقلبانه وينظفانه ويفرغان فضلاته ، ولا أمل في العودة
مرت السنوات تباعا ، وتعبت الأم وفقدت الأمل ثم دخلت غرفته ذات يوم وبعد أن انتهت من رعايته قالت سيكون من الأفضل لو مت يا صغيري
لكن الأب لم يفقد الأمل ، كان يدخل اليه يوميا يحدثه وهو يعلم انه لا يسمعه ، حتى اخذته الرحمة بولده ذات يوم فطبع قبلة حارة على جبينه وقال ، يوما ما سيكون كل شئ على ما يرام ، أنا واثق من هذا ، ثم خرج بتثاقل
مرت السنوات حتى أكمل الولد عامه الثاني عشر في غيبوبته ثم حدثت المعجزة محيرة كل العقول ، لقد استعاد كامل وعيه تماما !!
لقد فتح عينيه وتكلم ، لقد حكى انه كان يسمع كل شئ ، يدرك كل ما يدور حوله ، يريد ان يصرخ ، لقد كان يصرخ فعلا يقول انا هنا معكم لا تتركوني ، لكن لا احد يسمعه ، كانت كلمات امه كسيف حاد تلقاه ودخل في نوبة حزن ، لكنه بقي على قيد الحياة بفضل كلمة والده بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لقد استمد منه الدعم والطاقة والأمل بشكل ما
سرد لهم كل ما حدث وكل ما قالوا ، لقد كان فخورا بأبيه الذي لم يفقد الأمل طوال هذه السنوات !!
المعجزة لم تتوقف هنا ، لقد أكمل الشاب دراسته الجامعية وتزوج وهو قعيد على كرسي متحرك ليكون معجزة حقيقية في الارادة والتحدي
يا من تزورون مرضى الرعاية أو تعملون فيها ، أخفضوا أصواتكم وإحسبوا كلماتكم ، ربما يسمعونكم ويصرخون فيكم كلماتكم تقتلنا ، أو تعطينا الأمل
No comments:
Post a Comment
اكتب تعليق حول الموضوع