إستدعيت فى المستشفى لألقي نظرة على طفل صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ، دخل فى يومه الثاني من ارتفاع مستمر لدرجة الحرارة مع ألم بالبطن
كانت الشكوى الرئيسية للطفل التى أتت به إلى المستشفى ألما عابرا بالأذن ، لم يشك منه من قبل ، لكن ألم البطن بدأ حديثا
بدأت فحص الطفل الذي لم يحسن أن يعطي أية معلومات قد تكشف عن علة أو سبب ، كان بمرافقته أخوه الأكبر ذو السبعة عشر عاما الذي كان هو المرافق الوحيد له
أنت تتعامل مع طفلين حرفيا ، لا يحسن أيهما قولا ولا يكاد يبين .. غير أنهما بديا كصديقين مقربين يحمل أحدهما هم الآخر ، وقد صدق حدسي فيما بعد
كانت الآلام فى بطن الطفل مبرحة تشي بعلة خطيرة ، فى الغالب يصاب الأطفال بانفجار الزائدة الدودية بشكل أسرع من الكبار ، البطن تبدو كصخرة صماء من شدة الألم ، هذا يستوجب استكشافا جراحيا للبطن
لا تدري كيف تخبر طفلين لا مرافق لهما بخبر كهذا ، بات عليهما أن يعلما أن ألم الأذن البسيط تطور إلى استكشاف جراحي مع نسبة من الخطورة ليست هينة ، واحدة من شروط الحصول على إقرار طبي جراحي أن يكون المريض ومرافقوه على قدر من الوعي يمكنهم من موازنة الأضرار والمنافع المتوقعة من الجراحة ومن ثم الموافقة ، لكن بدا لى الطفلان غير قادرين على اتخاذ هذا القرار الذي لا بد أن يتم تنفيذه في الصباح الباكر
كانت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل ، وتم أخذ القرار الجراحي بالاستكشاف فى الصباح الباكر بعد أن اكتملت الفحوصات والتحاليل اللازمة
غير أن شيئا ما دفعني نحو محاولة عمل أشعة مقطعية على البطن ، ليس هناك مسوغ لهذا ، البطن فى أشد درجات الألم والتحجر ، كرات الدم البيضاء مرتفعة بدرجة كبيرة ، التشخيص التهاب بريتوني يستوجب استكشافا جراحيا ، ما فائدة الأشعة المقطعية إذن ؟
لا أعرف ، ظل هذا الدافع يدفعني حتى منعني عن النوم بعد منتصف الليل ، نزلت من غرفتي بسكن المستشفى ، وأيقظت الفنيين المنوط بهم عمل الأشعة واستدعيت الطفل يقودني حدس لا أعرف سببه
أعرف جيدا أن الطفل في حالة ألم ، وأن الألم شديد ، وأنه قد خلد إلى النوم ، لكني أعرف كذلك أن موعد الجراحة فى الثامنة من صباح الغد ، وأن الساعة الآن تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل .. هذا هو الموعد الأخير لإجراء الفحص المقطعي قبل الجراحة
نزل الولد برفقة أخيه وقد عاوده الألم بعد أن حاول استراق النوم قبل جراحة الغد ، استلقى على جهاز المقطعية وبدأ الفحص ، بعد عشرة دقائق ربما حصلت على نسخة مطبوعة من الأشعة المقطعية لأنظر فيها وأفاجأ بمشهد لم أر مثله من قبل !!
لقد كانت البطن بأكملها عبارة عن ورم سرطاني كبير التهم كل أجزاء البطن خلف الغشاء البريتوني ، كان الورم يحيط بالشريان الاورطي والوريد الأجوف السفلي وشرايين وأوردة الكلى ، كأن ثعبانا ضخما ابتلع كل مكونات بطنه !!
بات الولدان ليلتهما دون أن يعلما شيئا ، وفي الصباح عرضت أفلام الأشعة على هيئة الجراحة ليتم إلغاء عملية الاستكشاف وأخذ واحد من أسوأ قرارات الجراحة التي نتخذها فى مثل هذه الحالات ، كان القرار
let the patient die in peace , not in pieces !!
دع الطفل يموت بسلام ، لا ترسله إلى الموت مقطعا !!
أكثر قرار أكرهه فى الطب ، حين ترى الورم قد انتشر ونفدت حيلك كطبيب وبات الاستسلام للقدر هو الخيار الوحيد
تم تحويل الطفل إلى مستشفى سرطان الأطفال بعد أن تم أخذ عينة بإبرة جراحية موجهة بالاشعة وتحليلها لتكشف عن نوع شديد الفتك من سرطانات الغدد اللمفاوية
أخذ الأخ أخاه وانصرفا .. انقطعت أخبارهما خمسة أيام ثم عاد الأخ الأكبر يطلب نسخة من الأشعة المقطعية
تعجبت من أنه قطع كل هذه المسافة من محافظة إلى أخرى للحصول على نسخة من الأشعة المقطعية ، كان بإمكانهم إجراء واحدة أخرى هناك ، لكنه أخبرني أن أخاه بات ينازع الموت ، وأنه يخضع الآن للتنفس الصناعي وأن تحريكه من أجل اجراء اشعة مقطعية أخرى هو استعجال للموت الذي بات محتوما !!
تتأمل كم الألم والأسى والدروس فى هذه المأساة فتصيبك الدهشة ، قبس من رحمة الله بالطفل ليخفف عنه بعض ألمه بحدس عاودني بعد منتصف الليل لأتبعه دون سبب مقنع فيغير كل شئ رأسا على عقب ، أخ أكبر يحمل رفيقه ويدور به فى مأساة تشيب لها الرؤوس ثم يفقده شيئا فشيئا فلا أراه إلا دامع العين غير أنه كالجبل لا ينهار ولا يستسلم
علمت بعد أيام أن الطفل أسلم روحه إلى بارئها ، يقطع رثائك وأساك لأجله مريض آخر يحمل أضعاف مأساته يشغل نفس سريره ، فيكون خيارك الوحيد كطبيب فى مهنة تضعك وجها إلى وجه مع أشد حالات البؤس أن تتسلى عن مأساة بمأساة أخرى تنسيك أختها !!
No comments:
Post a Comment
اكتب تعليق حول الموضوع