سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ6ـاضرة [سقوط سوريا ]
∫∫ الحـ٦٥ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎استسلام حماة للتتار:
استقر الوضع لـ هولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوباً لاحتلال مدينة حماة أولاً، ثم المرور بعد ذلك على مدينة حمص وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي والموالي له، حتى يصل بعد ذلك إلى الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق.
بدأ الجيش التتري بالتحرك إلى الجنوب، فجاء إليه وفد من أعيان حماة وكبرائها يسلمون له مفاتيح المدينة دون قتال، فقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم في هذه المرة أماناً حقيقياً؛ وذلك ليشجع الناس في الشام لأن يفتحوا أبواب بلادهم كما فتحت حماة.
💎توجه التتار إلى دمشق وهروب الناصر وجيشه:
ترك هولاكو حماة وانتقل إلى حمص بلد صديقه الأشرف الأيوبي ولم يدخلها كذلك، واتجه مباشرة إلى دمشق، وكانت المسافة بين حمص ودمشق (١٢٠) كيلومترًا فقط.
سمع الناصر يوسف بالأخبار السيئة من سقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي، وسقوط مدينة حلب وحارم، وتسليم حماة وحمص، وأن الخطوة القادمة دمشق، فلم يدر الناصر يوسف الملك الجبان ماذا يفعل، وقد أعلن حرباً لا طاقة له بها، ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس،
فعقد مجلساً استشارياً أعلى ضم معظم قادة جنده، فأخذوا في التباحث والتشاور، وطال النقاش والحوار، ووصلوا في النهاية إلى أن قرروا الفرار، فليس عندهم قدرة على الدفاع عن المدينة، ولم يفكروا أصلاً في الدفاع عنها.
قرر الأمير الناصر يوسف والأمراء والجيش الفرار وترك مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
خلت دمشق من الأمراء والحراس، وكانت مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط.
والأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي خطة الفرار، حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام.
💎استسلام دمشق للتتار:
وقع أهل دمشق في حيرة كبيرة، فجيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة، والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على الجهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم، فماذا يفعلون وهم في غاية التردي؟ هنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يأخذوا مفاتيح المدينة ويسلموها إلى هولاكو ثم يطلبون الأمان منه كما فعل أهل حماة، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين، فقد تحصنوا في قلعة دمشق ودافعوا عنها حتى النهاية، فقد أتى فعل هولاكو في ترك حماة ثماره، فهذا الفعل أثر في دمشق وبدأت تسلم دون قتال، فخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو وسلمه المفاتيح، وفتحت دمشق أبوابها.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ6ـاضرة [سقوط سوريا ]
∫∫ الحـ٦٦ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎موت منكوخان زعيم التتار وتولي قوبيلاي الحكم بعده قبل دخول التتار دمشق:
قبل أن يدخل هولاكو إلى دمشق حدث ما لم يكن في حسبانهم، فقد مات منكوخان زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق بقليل، وكانت هذه أزمة خطيرة جداً، فـ منكوخان يحكم دولة مهولة كبيرة جداً، اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يؤدي إلى كارثة، وهولاكو هو أحد المرشحين للحكم في هذه الدولة الضخمة، فهو أخو منكوخان، وهو صاحب الانتصارات العظيمة الكثيرة، فهو الذي أسقط الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخ المسلمين.
فكر هولاكو في قيادة دولة التتار بدلاً من قيادة الشام وما حولها، فترك الجيش التتري وسارع بالعودة إلى قراقورم، وعندما وصل إلى تبريز في إيران علم أن التتار قد عينوا قوبيلاي ملكاً على دولة التتار بكاملها، فكان هذا صدمة لـ هولاكو، فلم يكمل الطريق إلى قراقورم وآثر أن يمكث في تبريز، ولم يعد بعد ذلك إلى الشام، وظل يراقب الموقف من تبريز، ومنها كان يدير كل هذه الأملاك الواسعة التي فتحها.
💎دخول التتار دمشق:
حمل أعيان دمشق مفاتيح المدينة إلى جيش التتار، فاستقبلهم كتبغانوين القائد الجديد الذي ولاه هولاكو قبل أن يغادر الجيش، فأعطى أهلها الأمان فعلاً، وتقدم بجيشه لدخول المدينة العظيمة الكبيرة دمشق.
وها هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل بغداد عاصمة الخلافة العباسية.
وكانت دمشق واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة، ومن أهم ثغور الجهاد، ومن أرقى دور العلم.
زحفت الجيوش التترية على دمشق، وانسابت من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة.
أواه يا درّة الشام، ويا قلب العالم الإسلامي! أين أبو عبيدة بن الجراح؟ وأين خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين؟
أين الذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟ أين معاوية رضي الله عنه وأرضاه الذي حكم الدنيا بكاملها من هذا المكان؟ أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي أسقطها التتار الآن؟
أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله اللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟ أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟
مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق ما لم يخطر على أذهانهم مطلقاً، شاهدوا ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة، لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغانوين النصراني قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.
وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، عند الفتح الإسلامي لها في سنة (١٤) هجرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق ولم يقتلوا منهم أحداً، إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، وكانت سقوط دمشق في أواخر صفر سنة (٦٥٨هـ)، يعني: بعد سنتين من سقوط بغداد، وهو زمن قياسي جداً، فقد اجتاح التتار في هاتين السنتين مساحات هائلة من الأراضي، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا، مع الكثافة السكانية الهائلة في هذه المناطق.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ6ـاضرة [سقوط سوريا ]
∫∫ الحـ٦٧ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎تسلط النصارى في دمشق عند دخول التتار:
بدأ التتار في إدارة مدينة دمشق بواسطة النصارى، فوضعوا على إدارة المدينة رجلاً تترياً اسمه إبل سيان، وقد كان معظماً ومحابياً جداً للنصارى، وبدأت المدينة تعيش فترة عجيبة جداً في تاريخها.
واسمعوا إلى هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية) تفصيلاً لهذا الأمر، يقول:
اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو في تبريز وأخذوا معهم هدايا، فاستقبلهم وأحسن استقبالهم، ثم قدموا بعد ذلك من عنده ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما -هو أحد أبواب دمشق، مسمى على اسم قديس نصراني توما - ومعهم صليب منصوب، يحملونه على رءوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عليه خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق من المسلمين أن يقوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم يقول ابن كثير: ثم إنهم دخلوا الجامع بخمر، -قبل ذلك كان يرشونه على الباب- فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هكذا كان الوضع في دمشق.
💎احتلال التتار لفلسطين:
أرسل كتبغانوين الزعيم الجديد في دمشق، فرقة من جيشه لاحتلال فلسطين، فاحتلت، ثم نابلس، ثم اخترقت كل فلسطين واحتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوروبية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سوريا ولبنان، وبذلك قسمت فلسطين بين التتار والصليبيين.
وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكاملها، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين، وكل هذا في سنتين فقط من (٦٥٦هـ) إلى (٦٥٨هـ)، واقترب التتار من سينا على بعد (٣٥) كيلو متر فقط.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:٤٤].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٦٨ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎أسباب جهل المسلمين بفترة حكم المماليك:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه هي المحاضرة السابعة من محاضرات: قصة التتار من البداية إلى عين جالوت.
في المحاضرتين السابقتين رأينا سقوط الدولة العباسية في العراق، وسقوط بغداد، ثم اجتياح الشام بكامله، وسقوط حلب وحمص وحماه ودمشق، وكل لبنان، ثم احتلال فلسطين، ولم يبق غير خمسة وثلاثين كيلو متر فقط أمام التتار، ليدخلوا الحدود المصرية ويضموا بذلك مصر إلى أملاك الدولة التترية الرهيبة.
وذكرنا أن مصر في ذلك الوقت كانت تحت حكم المماليك.
لقد فضلت أن أجعل هذه المحاضرة محاضرة مختصرة لشرح تاريخ المماليك، والموضوع يحتاج إلى تفصيل في مجموعات أخرى، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا فيها.
تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وهذا له أسباب كثيرة منها:
✍أن الأمة الإسلامية في وقت ظهور دولة المماليك وما بعدها كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، وكثرت فيها جداً الإمارات والدويلات، وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم جداً، لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية، فالمماليك في أعظم حكمهم لم يسيطروا إلا على خمسة أو ستة أقطار من الأقطار المعروفة في ذلك الوقت، وتزامن ظهورهم مع ظهور أكثر من دويلة وإمارة في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، فلدراسة تاريخ المماليك لا بد أن يدرس تاريخ كل هذه المناطق في تلك الحقبة من التاريخ سوياً، وهذا شيء صعب.
✍أيضاً من العوامل والأسباب التي أدت إلى جهل المسلمين بفترة المماليك: كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك، فكلما ظهر وال أو سلطان في فترة، وبدأت هذه الفترة تفهم، تغير السلطان وأتى آخر ثم ثالث وهكذا.
هذه هي حال دولة المماليك الأولى؛ فدولة المماليك مرت بأكثر من مرحلة، ففي المرحلة الأولى كان اسمها دولة المماليك البحرية، وقد ظلت هذه المرحلة (١٤٤) سنة، تعاقب على الحكم فيها (٢٩) سلطاناً، يعني: أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى الخمس السنوات فقط، وليس كل السلاطين كانت مدة حكمهم خمس سنوات، فهناك سلاطين حكموا سنين طويلة، ولكن هناك سلاطين آخرين حكموا سنة أو سنتين أو أقل من السنة، فكثرة السلاطين والولاة أدت إلى عدم دراية ومعرفة كبيرة بتاريخ المماليك، فكان من الصعب دراسة تاريخ المماليك.
✍وأهم الأسباب التي جعلت الكثير من المسلمين لا يدركون أو لا يفقهون تاريخ المماليك، هو: تزوير التاريخ الإسلامي، وهذا تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم، فقد شوهوا تاريخ المماليك تشويهاً كبيراً؛ مع ما كان للماليك من الإنجازات المشرقة والهامة جداً في تاريخ الأرض، والتي أضافت الكثير إلى أمة الإسلام،
فمن أهم هذه الإنجازات: أن دولة المماليك وقفت سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر، حاولتا هدم صرح الإسلام، وهما: التتار، والصليبيون، فقد كان للمماليك جهاد مستمر طويل ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وقد ظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض (٢٧٠) سنة تماماً، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين.
ومن أجل أن نفهم قصة المماليك سنرجع إلى الوراء قليلاً إلى ما قبل قيام دولة المماليك، وإلى الدولة التي سبقت دولة المماليك، وهي دولة الأيوبيين.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٦٩ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎لمحة سريعة عن الدولة الأيوبية:
أسس الدولة الأيوبية البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في سنة (٥٦٩) من الهجرة، وهذه الأرقام في غاية الأهمية، فهي أرقام محورية في تاريخ المسلمين وأتمنى أن نحفظها، وظل صلاح الدين الأيوبي يحكم هذه الدولة (٢٠) سنة، حتى مات سنة (٥٨٩هـ)، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار كبير جداً، وحقق انتصارات هائلة، ومن أشهر انتصاراته حطين، وكانت في ربيع الثاني سنة (٥٨٣) هجرية، وهذا التاريخ من المفروض ألا ينساه أحد من المسلمين أبداً، ثم فتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة أشهر فقط، في رجب من نفس السنة.
ترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة، تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق، وأجزاء من تركيا، وأجزاء من ليبيا والنوبة، وكون دولة في منتهى القوة, وحاصر الصليبيين في ساحل ضيق جداً على البحر الأبيض المتوسط في الشام،
فـ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لم يستطع فتح كل الإمارات الصليبية الموجودة في الشام، ولكنه حرر جزءاً كبيراً جداً من الشام ومن فلسطين بقدر ما يستطيع.
ثم بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد جداً ضد الصليبيين، فقد فتن أبناء صلاح الدين الأيوبي بالدولة الكبيرة، فقد كثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، حتى إنها تفككت تماماً بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
وليس لدينا الوقت الكافي، كي نتكلم عن هذه الصراعات والخلافات التي نشأت بعد صلاح الدين الأيوبي، وإن شاء الله سنتكلم عنها بالتفصيل في مجموعة الحروب الصليبية.
وهذا الصراع ظل (٥٩) سنة متصلة، منذ وفاة صلاح الدين الأيوبي في سنة (٥٨٩) من الهجرة إلى سنة (٦٤٨) من الهجرة، ولم يكن هذا الصراع صراع كلام وسباب وشقاق فقط، بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف وإراقة الدماء المسلمة، وهذا أدى إلى فرقة شديدة في العالم الإسلامي، وكل هذا كان أمراً متوقعاً وليس غريباً، فليس غريب أن يترك صلاح الدين الأيوبي دولة قوية، ثم تتفكك بسبب الدنيا، فالدنيا مرض قاتل، أدى إلى انهيار الكثير والكثير من الدول الإسلامية في كل مراحل التاريخ،
واسمع إلى هذا الحديث، روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).
فلما جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً، وهو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا فعلاً وهي راغمة، وأما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، حتى أصبحوا لا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فهم تارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً، وكان هذا هو واقع المسلمين في تلك الفترة التي تلت حكم البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٧٠ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎حروب الأيوبيين في الشام مع الملك نجم الدين أيوب:
استعد الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل مع الملك الصالح أيوب على مصر، وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة (٦٤١) من الهجرة، يعني: بعد أربع سنوات من تولي الملك الصالح حكم مصر توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين من أجل حرب الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما علم الملك الصالح بإعداد هذا الجيش الكبير من النصارى ومن الأيوبيين، بدأ يعد جيشاً لملاقاة هذه القوى المتحدة، ووضع على رأس جيشه ركن الدين بيبرس رحمه الله أكفأ قادته، واستعد للمواجهة، ولكن الجيش المصري كان قليلاً وضعيفاً جداً مقارنة بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين،
فاضطر الملك الصالح للاستعانة بالجنود الخوارزمية، وهم جنود محمد بن خوارزم شاه وجلال الدين بن محمد بن خوارزم وغيرهما من الملوك الخوارزمية، الذين تحدثنا عنهم في بداية هذه السلسلة، وهم كانوا قد فروا من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكانوا جنوداً مرتزقة يتعاونون مع من يدفع أكثر، فكانوا يعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح مقابل أجرة،
ودارت موقعة كبيرة في غزة في فلسطين بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وكانت هذه الموقعة في سنة (٦٤٢) من الهجرة، وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقتل من الصليبيين أعداداً كبيرة، وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسر مجموعة كبيرة جداً من أمراء وملوك الصليبيين والأيوبيين،
واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس، بعد أن كان الأيوبيون قد تنازلوا عنه للصليبيين، وأعطوهم إياه هدية، فاقتحم الملك الصالح بيت المقدس وحصون الصليبيين، وحرر مدينة القدس المباركة نهائياً بجيشه المدعم بالخوارزمية سنة (٦٤٣) من الهجرة، بعد سنة من موقعة غزة،
ولم يستطع الجيش النصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم (١٦) نوفمبر سنة (١٩١٧) من الميلاد، بعد الخيانة المعروفة من مصطفى كمال أتاتورك.
ونسأل الله عز وجل أن يعيد بيت المقدس إلى المسلمين.
ثم أكمل الملك الصالح أيوب الطريق بعد ذلك إلى الشمال، ودخل دمشق ووحد من جديد مصر والشام، ثم اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر طبرية وعسقلان وغيرهما.
💎انشقاق الجنود الخوارزمية عن جيش الملك نجم الدين أيوب:
حدث تطور خطير جداً في جيش الملك الصالح أيوب رحمه الله، فقد انشق عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة، فبعد أن حرر بيت المقدس وضم الشام إلى مصر، حدث هذا الانشقاق، بعد أن استمال أحد الأمراء الأيوبيين بالشام هذه الفرقة الخوارزمية، مقابل دفع أكثر للمال، ونحن نعرف أن هذه الفرقة تعمل بالمال فقط، ولم تكتف بالخروج عن الملك الصالح، بل إنها حاربت الملك الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذا اللقاء إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله.
وبسبب هذا الحدث ضاعت مكاسب كثيرة جداً كان قد حققها الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، فخرج من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله، ويقاتل معه من أجل قضية لا من أجل أموال، فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وهذه الطائفة هي المماليك.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٧١ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎قصة المماليك:
المماليك في اللغة العربية: هم العبيد أو الرقيق، ولفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، ولكن لفظ المماليك اتخذ مفهوماً اصطلاحياً في التاريخ الإسلامي، فعندما نقول: المماليك فلا نقصد بها كل الرقيق، لا، وإنما نقصد بها طائفة معينة من الرقيق.
وإذا أردنا أن نعرف قصة المماليك فلنعد إلى الوراء قليلاً، إلى أيام الخليفة العباسي المشهور المأمون الذي حكم من سنة (١٩٨) من الهجرة إلى سنة (٢١٨) من الهجرة، يعني: (٢٠) سنة، وإلى أيام أخيه المعتصم الذي جاء بعده، وحكم من سنة (٢١٨هـ) إلى سنة (٢٢٧هـ)، يعني: تسع سنوات، ففي فترة حكم هذين الخليفتين اجتلبا أعداداً ضخمة من الرقيق، عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموا هؤلاء المماليك كفرق عسكرية؛ بهدف الاعتماد عليهم في تدعيهم النفوذ، ومع مرور الوقت أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية، وأحياناً الوحيدة في كثير من البلاد الإسلامية، وأمراء الدولة الأيوبية بالذات كانوا يعتمدون على المماليك في ترسيخ الحكم وتدعيمه في البلاد التي يحكمونها، وكانت أعداد المماليك محدودة إلى حد ما في كل فترات الدولة الأيوبية، إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك؛ حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وبالذات في مصر التي هي مقر حكم الملك الصالح أيوب رحمه الله.
وكان المصدر الرئيسي للمماليك هو إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة، وكان المسلمون يشترون المماليك من أسواق النخاسة المنتشرة في بلاد ما وراء النهر -نهر جيحون-، وهو نهر يجري شمال تركمانستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزباكستان وطاجاكستان، والأعراق التي تعيش خلف هذا النهر في الغالب أعراق تركية، وكانت هذه المنطقة مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، وكان من أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت مدينة سمرقند، وفرغانة، وخوارزم وغيرها من المدن الإسلامية، وهناك مماليك من أصول أرمينية ومغولية وأوروبية، فكان على مدار عشرات ومئات السنين يؤتى بالمماليك من هذه البلاد.
💎ترقية المملوك على قدر نبوغه:
كان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، وبدلاً من أن يكون مملوكاً عادياً يصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي أكثر وأكثر، حتى يعطى ويملك بعض الإقطاعات في الدولة التي تدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، يعني: مثل: محافظ في هذا الزمان، أو أمير فرقة في الجيش، مثل: لواء أو عميد أو عقيد وهكذا، وكان هذا يعطي للمماليك رغبة كبيرة جداً في العمل والإنتاج.
💎انتساب المماليك إلى سيدهم:
كان المماليك في العادة ينتسبون إلى اسم السيد الذي اشتراهم، فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالمماليك الصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالمماليك الكاملية وهكذا.
وقد زاد عدد المماليك الصالحية جداً الذين اشتراهم الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً، فكان يعيش معهم باستمرار، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة الموجودة الآن في القاهرة، وكان النيل في الماضي يعرف باسم البحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية بالمماليك البحرية؛ لأنهم كانوا يسكنون بجوار البحر.
وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك، ووصل المماليك إلى أرقى المناصب في دولته، فقد كان معظم المحافظين وقادة الجيش من المماليك، وقد تولى قيادة الجيش في عهد الملك الصالح فارس الدين أقطاي أحد المماليك البارزين، وكان الذي وراءه مباشرة ركن الدين بيبرس.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٧٢ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎العلاقة بين الملك نجم الدين أيوب والمماليك وكيفية تربيتهم:
الذي استحدثه الملك الصالح أيوب وتبعه عليه سلاطين دولة المماليك، زيادة على أنه كان يأتي بالمماليك بصورة كبيرة، أنه كان يأتي بالمماليك في مرحلة الطفولة المبكرة جداً، وكان غالب هؤلاء من بلاد غير مسلمة، وفي الغالب يكون هذا المملوك غير مسلم وغير ناطق بالعربية أساساً، فكان يحضرهم ويبتدئ تربيتهم في مصر.
وهنا نقطة مهمة جداً فالملك الصالح أيوب ومن تبعه بعد ذلك من الأمراء ما كانوا يتعاملون أبداً مع المماليك كرقيق، بل كانوا يقربونهم جداً منهم، إلى درجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم، ولم تكن الرابطة بينهم رابطة المالك والمملوك، ولا رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأتباعه، وهذه الرابطة تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة، حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب الأستاذ، وليس لقب السيد.
وقد شرح المقريزي كيفية تربية المملوك الصغير، الذي يشترى وهو ما زال في مرحلة الطفولة المبكرة، ونريد أن نركز على هذا جداً؛ لأنه صار مفتاح التغيير في مصر، وبواسطته تكوّن الجيش الذي استطاع أن يقف أمام التتار بعد ذلك.
أول المراحل التربوية في حياة المملوك: هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة؛ لأنهم جاءوا من بلاد غير ناطقة باللغة العربية، ثم بعد ذلك يدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ بعد ذلك في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي وآداب الشريعة الإسلامية، وهذا كان عاماً على كل المماليك، ولهذه التربية المتميزة الأثر على أطفال المماليك، فقد نشئوا وهم يعظمون جداً أمر الدين الإسلامي، وأصبحت لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، فظلت مكانة العلم والعلماء عالية جداً عند المماليك في كل مراحل حياتهم، وهذه المعلومة من أهم المعلومات عن دولة المماليك، وهو يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في عهد المماليك،
فقد ظهر في عهد دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ، مثل: العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله، وأسماء لا حصر لها.
وكان إذا وصل المماليك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال، فيعلمونهم فنون الحرب والقتال، وركوب الخيل، والرمي بالسهام، والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً من المهارة القتالية والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.
ثم بعد ذلك يتدربون على أمور القيادة والإدارة، ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك متفوقاً تماماً في المجال العسكري والإداري، بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة، وهذا كله ولا شك كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال، وهذا كله يؤكد أهمية التربية.
وكان السيد الذي اشتراهم يتابع هذه الخطوات والمراحل من التربية بدقة شديدة، بل وأحياناً كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، وينبسط إليهم، وهو سلطان مصر كلها.
وكان المماليك يحبون أساتذتهم حباً حقيقاً فعلاً، ويدينون لهم بالولاء التام، وهكذا إذا كان القائد يخالط شعبه ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم ولا شك يحبونه ويعظمونه ويثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا طلب منهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه،
وأما إذا كان القائد في حالة انفصام مع شعبه، ويعيش حياته المترفة بعيداً عنهم، ويتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون أبداً بأي انتماء ناحيته، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم التي يعيشون فيها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٧٣ـلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎الحملة الصليبية السابعة على مصر:
في سنة (٦٤٧) من الهجرة مرض الملك الصالح أيوب رحمه الله مرضاً شديداً بمرض السل، وكان قد كبر سنه جداً، مما جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها أراد ملك فرنسا لويس التاسع أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام.
وذكرنا من قبل أنه حاول الاستعانة بخاقان التتار آنذاك كيوك بن أوكيتاي، ولكن فشلت هذه المحاولة، ومع ذلك أصر لويس التاسع على المضي في حملته.
ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية، من أجل أن يبدأ منها الحملة التي يغزو منها مصر والشام، وكانت في ذلك الوقت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهذه الحملة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا تعرف في التاريخ باسم الحملة الصليبية السابعة.
💎سقوط دمياط في يد الصليبيين
نزل لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم (٢٠) صفر سنة (٦٤٧) من الهجرة، وظنت الحامية التي تدافع عن مدينة دمياط أن السلطان المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط بسهولة شديدة جداً في أيدي الصليبيين، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة
💎موقعة المنصورة:
لما علم الملك الصالح رحمه الله بسقوط دمياط، اشتد الحزن والمرض عليه، وبدأ يفكر بطريقة عملية، وتوقع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها، وبذلك يسقطون الدولة بكاملها، لذلك قرر بحكمة أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط، فبدأ ينظر إلى خط النيل الذي يمر من دمياط إلى القاهرة، فوجد أن مدينة المنصورة تقع على النيل، وحتماً سيصل إليها الصليبيون، فلذلك قرر أن يتجمع بجيشه في المنصورة،
وحمل الملك الصالح بنفسه مع مرضه الشديد إلى المنصورة، وبدأ الجيش المصري ومعظمه من المماليك يستعد هناك لحرب الصليبيين، وعلى رأس الجيش المصري كما ذكرنا قبل ذلك فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس.
خرج النصارى من دمياط في (١٢) شعبان سنة (٦٤٧) هجرية، متجهين جنوباً إلى القاهرة عبر النيل، كما توقع الملك الصالح أيوب،
وقبل أن يصلوا إلى مدينة المنصورة وفي ليلة النصف من شعبان سنة (٦٤٧) من الهجرة توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله في المنصورة، وهو يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المنصورة، نسأل الله عز وجل له المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.
يقول ابن تغري بردي رحمه الله صاحب كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) عن نجم الدين أيوب رحمه الله: ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذب عن المسلمين لكفاه ذلك،
ثم يقول: ما أصبره وأغزر مروءته! وكانت هذه المصيبة خطيرة على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل، فلم يكن يوجد خليفة للملك الصالح في ذلك الوقت، والبلاد في أزمة شديدة، فميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق،
وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب شجرة الدر بحكمة بالغة، -وهي جارية من أصل أرميني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، فهي في الأصل أقرب إلى المماليك، -فكتمت خبر وفاة الملك الصالح، وقالت: إن الأطباء منعوا الزيارة له،
وأرسلت رسالة سريعة جداً إلى ابن الملك الصالح أيوب توران شاه وكان يحكم مدينة تعرف بحصن كيفا، وهي الآن في تركيا، وأبلغته بخبر وفاة أبيه وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام،
ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح فخر الدين يوسف على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه ويتولى أمور البلاد، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وإعداد الخطة المناسبة لحرب الصليبيين،
فمشت الأمور بصورة طيبة ومرضية، ولم يحصل اضطراب بعد وفاة الملك الصالح، فوضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة في منتهى البراعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضوا الخطة على شجرة الدر، ووافقت شجرة الدر على الخطة وبدأ التنفيذ بالفعل.
وكانت شجرة الدر في ذلك الوقت تمثل الحاكم الفعلي للبلاد حتى يأتي توران شاه بن الصالح أيوب،
وفي يوم (٤) ذي القعدة في سنة (٦٤٧) هجرية -وهذا التاريخ من أعظم تواريخ الإسلام- دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر المسلمون فيها انتصاراً باهراً، وفيها تفصيلات في منتهى الروعة، وليس هناك مجال لذكرها الآن.
ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع خارج المنصورة في يوم (٧) ذي القعدة سنة (٦٤٧)، وتمكن الملك لويس التاسع من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ7ـاضرة [ المماليك ]
∫∫ الحـ٧٤ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎معركة فار سكور وأسر لويس التاسع وسقوط جيشه وهزيمتهم:
وصل توران شاه بن الصالح أيوب إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في يوم (١٧) ذي القعدة سنة (٦٤٧) من الهجرة، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه لحكم مصر والشام، ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين، وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت جداً بعد انتصار المنصورة الرهيب، وتراجع ناحية دمياط، فتبعه الجيش المسلم بسرعة، وبدأ يخطط لحرب جديدة،
وبالفعل التقى الجيش المصري مرة أخرى مع الجيش الصليبي عند مدينة فارسكور بالقرب من دمياط، وكان هذا اللقاء في أوائل محرم سنة (٦٤٨) من الهجرة بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورةالكبيرة،
وقاد هذه الموقعة توران شاه الملك الجديد، وكان الذي يتحكم في كل مجريات الأمور في الحرب هم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس قادة الجيش المصري في ذلك الوقت.
وفي موقعة فارسكور أُسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا، ووقع جيشه بالكامل ما بين قتيل وأسير، وموقعة فارسكور من أعظم مواقع الإسلام، وحمل الملك لويس التاسع مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، وحبس في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان المشهور، ووضعت عليه شروط قاسية جداً ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها حالاً والباقي مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية،
بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات.
فقد كانت هذه الموقعة انتصاراً باهراً بكل المقاييس، وجمع النصارى في فرنسا وفي غيرها نصف الفدية بصعوبة، وأطلقوا سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت، نسأل الله عز وجل أن يحررها من دنس اليهود الآن.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
No comments:
Post a Comment
اكتب تعليق حول الموضوع