سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١٠٧ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - -
💎أحداث ليلة ويوم ٢٥ رمضان سنة ٦٥٨هـ:
انتهى يوم ٢٤من رمضان،وقضى المسلمون هذه الليلة في القيام والابتهال والدعاء،وكانت هذه من أعظم ليالي السنة
أولاً: لأنها ليلة وترية، وثانياً وهذا هام جداً: لأنها ليلة تسبق يوم الجهاد في سبيل الله، وفي صباحها سيكون اللقاء العظيم الذي يثأر فيه المسلمون لدماء الملايين من المسلمين التي سفكت على أيدي هؤلاء التتار الهمج، فكانت ليلة خالدة حقاً، ومتعة حقيقية لا يشعر بها إلا المجاهدون في سبيل الله،
كان قطز قد اجتهد كثيراً في تربية الزرع وغداً هو يوم الحصاد، وستكون نتائج جميع الأعمال الضخمة التي قام بها قطز قبل ذلك
جاء وقت الفجر، وصلى المسلمون الفجر في خشوع، ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة،فهو عيد في السماء وعيد في الأرض، وسيكون عيداً للنصر من أعظم أعياد المسلمين إن شاء الله.
فيوم الجمعة (٢٥) من رمضان سنة (٦٥٨هـ) تاريخ من الواجب على جميع المسلمين ألا ينسوه، فهو من أعظم تواريخ المسلمين مطلقاً، وبشروق الشمس أضاءت الدنيا ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار من اتجاه الشمال
جاء الجيش التتري المهول الذي دوّخ العالم، واقترب من سهل عين جالوت،وعلى أبواب السهل في الناحية الشمالية وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعدته القوية
ولم يكن بالسهل أحد من رجال المسلمين، فقد كان السهل خالياً تماماً،فكل المسلمين كانوا مختبئين خلف التلال،حتى المقدمة التي كان على رأسها ركن الدين بيبرس كانت مختبئة في ذلك الصباح
-----
💎نزول مقدمة الجيش الإسلامي إلى عين جالوت ورعب التتار منهم:
بدأت القوات الإسلامية بعد أن أشار لهم قطز تنزل إلى سهل عين جالوت بالتدريج أمام الجيش التتري،لم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، وإنما نزلت على مراحل وفي صورة عجيبة
واسمعوا وصف صارم الدين أيبك الرجل المسلم الذي في جيش التتار، والذي انضم بعد ذلك إلى جيش المسلمين بعد انتهاء الموقعة، وكان يقف إلى جوار كتبغانوين القائد النصراني للجيوش التترية، فوقف يصف هذا النزول لمقدمة الجيش المسلم
ويقول:فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام - وكان أول سنجق أحمر وأبيض -وسنجق يعني: كتيبة، فأول كتيبة نزلت كانت لابسة أحمر وأبيض- وكانوا لابسين العدد المليحة،فكان موقفاً في غاية الروعة
نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة جداً حمراء وبيضاء،وكان كل الفرقة لها زي خاص بها،وكانوا يلبسون العدد المليحة.
يعني: أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة جميلة، فنزلوا بخطوات ثابتة وبنظام بديع إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة، وكأنهم في عرض عسكري،لهم هيبة وعليهم جلال، يوقعون في قلوب من يراهم الرهبة،هذه هي الكتيبة الأولى
يقول صارم الدين أيبك وهو يتكلم عن كتبغا السفاح التتري الجبار:فبُهت كتبغا وبُهت من معه من التتار،{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:٢٥٨].
وهذه أول مرة يرى فيها كتبغا جيش المسلمين على هذه الصورة،وقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون،أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب،أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار،كان كتبغا معتاداً على رؤية المسلمين في أحد هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً
قال كتبغا في فزع وهو يسأل صارم الدين أيبك: يا صارم! رُنك من هذا؟ ورُنك: كلمة فارسية تعني: لون، أي: كتيبة من هذه؟ إنها كتيبة مرعبة.
فقال صارم الدين أيبك: رُنك سنقر الرومي، أحد أمراء المماليك
ومهما صورنا من عظمة هذه الفرقة وحلاوة تنظيمها وإبداع نزولها، فلا يمكن أبداً أن نفهم أن القائد التتري السفاح الجبار صاحب الجيش المهول يُرعب من رؤية كتيبة هي إحدى فرق المقدمة،
ولا يمكن أبداً أن نفسر هذا الرعب إلا في ضوء ما ذكرناه قبل ذلك من قوله ﷺ(نُصِرت بالرعب مسيرة شهر)فالله هو الذي ألقى الرُعب بنفسه سبحانه وتعالى في قلب كتبغا وقلب الجيش التتري الرهيب
ثم بعد قليل نزلت كتيبة ثانية تلبس الملابس الصفراء،وعليها من البهاء والجمال ما لا يوصف، فتزلزل كتبغا وقال لـ صارم: هذا رُنك من؟ فقال صارم: هذا رُنك بلبان الرشيد أحد أمراء المماليك الآخرين
ثم تتابعت الكتائب الإسلامية، وكل هذا كان مقدمة ركن الدين بيبرس تنزل على دفعات، وكل كتيبة تنزل بلون آخر، وكلما نزلت كتيبة يسأل كتبغا: رُنك من هذا؟ يقول صارم الدين أيبك: فصار أي شيء يجري على لساني قلته.
أي: أنه بدأ يقول أسماء مخترعة، ويذكر أسماء لا أصل لها، يريد أن يكثّر من أسماء المماليك؛ لكي يوهم كتبغانوين أن هذا اتحاد المماليك المصرية والشامية وغيرها، فيوقع الرهبة في قلبه
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١٠٨ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - -
💎دور فرقة الطبول العسكرية الإسلامية في عين جالوت:
بعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس واكتملت، بدأت فرقة الطبول العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها، وتضرب صنوجها النحاسية، وتعمل دوراً في غاية الأهمية في موقعة عين جالوت، فقد كانت هذه الضربات بمعان معينة
وكانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء، فقد كان هناك ضربات معينة للميمنة، وضربات معينة للميسرة، وضربات معينة للقلب، وهناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وهناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية، وبذلك يستطيع القائد قطز رحمه الله أن يقود المعركة من مكان بعيد
وأيضاً يشعر الجنود بمعية القائد معهم، وأنه يرى كل خطوة من خطوات الجنود، ويستطيع أن يسد الثغرات من على بعد وهو يراقب الموقف، كما أن هذه الضربات القوية كانت تزلزل قلوب الأعداء، وتثبت قلوب المسلمين
ووقف الأمير ركن الدين بيبرس بقواته على المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، بينما ترك السهل بكامله خالياً من خلفه، واقتربت جداً ساعة الصفر
وكان جيش المماليك بكامله مختفياً خلف الأشجار والأحراش وفوق التلال، والذي يظهر منه هو جيش ركن الدين بيبرس فقط، وكانت المعلومات التي جاءت إلى كتبغا قبل ذلك من غزة قد وصفت له الجيش بهذا العدد، فكان كتبغا معتقداً أن جيش المسلمين كله هو فرقة المقدمة الإسلامية التي تقف أمامه، في حين أنها كانت جزءاً قليلاً من الجيش المسلم الكامل.
وللأسف الشديد لم نجد إحصاءً دقيقاً في أي كتاب من الكتب التي روت قصة التتار عن أعداد جيش التتار أو أعداد جيش المسلمين، لكننا نعلم أن الأعداد كانت هائلة في هذه الموقعة الضخمة
_
💎بداية معركة عين جالوت:
نظر كتبغانوين إلى القوات الإسلامية فوجدها قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة من بدايتها، صحيح أنهم كانوا في هيئة حسنة، ومنظرهم مهيب عند كتبغا وعند جيش التتار، ولكن أعدادهم قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة بكاملها، فدخل بجل جيشه أو كله إلى سهل عين جالوت.
وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله.
وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته، وانهمرت جموع التتار الرهيبة، وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين، وكانت أعداداً هائلة من الفرسان ينهبون الأرض نهباً في اتجاه القوات الإسلامية
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله فكان يقف في رباطة جأش عجيبة, ووقف معه الأبطال المسلمون في ثبات ولم يتحركوا، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة وأمناً واطمئناناً، فكانوا يرون جحافل التتار الضخمة لا تعدو أن تكون حفنة قليلة من الرجال، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:٤٤].
حتى إذا اقتربت جموع التتار من مقدمة الجيش الإسلامي أعطى القائد المحنك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله إشارة البدء لرجاله، فانطلقوا في شجاعة نادرة باتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار.
وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً بمعنى الكلمة، وارتفعت سحب الغبار الكثيف في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الفلسطينيين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وارتفع صليل السيوف وغطى على كل شيء.
احتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يرونه أبداً في حياتهم قبل ذلك.
وكانت هذه من أكبر المواقع في تاريخ الأرض، وكانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيار أفرادها واحداً واحداً، حتى تستطيع أن تقف هذه الوقفة الجسورة أمام هذه الجحافل من التتار، وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها،
فلما رأى كتبغانوين القوات ثابتة ضغط بصورة أكبر وبدأ يستخدم كل الطاقة، وأدخل كل الجنود إلى داخل السهل ولم يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري.
كل هذا وقطز يرقب الموقف عن بعد، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة
ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور.
ومع أن الفجوة كانت هائلة في العدد والعدة بين الفريقين، إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات.
وكان هم المسلمين إلى هذه اللحظة هو استنزاف القوات التترية في حرب مرهقة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم.
هذا كان الجزء الأول من الخطة الإسلامية، الصبر قدر المستطاع من الجيش حتى تستنزف الطاقات التترية عن آخرها.
🌷د.راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١٠٩ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - -
💎سحب قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت:
جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة، ودقت الطبول دقات معينة؛لتصل بالأخبار من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني الخطير من الخطة
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ويا حبذا لو سُحب الجيش بكامله! بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها والقضاء عليها
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ مهمة صعبة جداً، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع تحت الضغط التتري الرهيب، وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال، ويحتاج فوق كل ذلك وقبل كل ذلك إلى توفيق من رب العالمين
وهذه العوامل بفضل الله كانت متوافرة في هذا الجيش، والمحلل لهذه الخطة يجد أنها نفس الخطة الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة، التي كانت ضد القوات الفارسية وذلك في سنة (١٩هـ)، وكان يقوم فيها بدور ركن الدين بيبرس من عملية سحب الجيش التتري إلى داخل السهل الصحابي القائد الإسلامي الفذ القعقاع بن عمرو التميمي، وكان يقوم بدور قطز الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرن
وقام في وقتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الخطير، الذي قضى على قوات الفرس تماماً، وهنا في عين جالوت استفاد قطز رحمه الله من التاريخ، ومن تجارب المسلمين السابقة، وطبق خطة موقعة نهاوند بحذافيرها
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة في السهل تقدم جيش التتار مكانها، وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام
وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وبأعداد كبيرة، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت،
وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك كتبغا كما أشرنا قبل ذلك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل لحماية مؤخرة الجيش، بل أخذ معه كل الجنود إلى داخل السهل.
كيف فعل كتبغا ذلك وهو بكل وضوح خطأ عسكري شنيع لا ريب ولا شك في ذلك، وهو قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فهو على الأقل في هذه الموقعة قد جاوز الستين أو السبعين من عمره؛
فـ كتبغانوين من القواد الذين عاصروا جنكيز خان مؤسس دولة التتار، أي: أنه قديم جداً في المعارك، وكان قائداً أيام جنكيز خان، وجنكيز خان قد مات قبل هذه الموقعة بأربع وثلاثين سنة، وهذه السنوات الطويلة كلها قضاها كتبغا في حروب وقيادة؟
لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قواتاً احتياطية خارج السهل؛ لتؤمّن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي.
لكن كل هذا لم يحدث.
توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في هذا الوقت الحساس من أوقات المعركة، وقد يفسر بعض المحللين ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم.
ويفسره بعضهم بأنه ضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي.
ويفسره آخرون بأنه الغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه.
ويفترض بعض المحللين أن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن القائد العجوز الخبير كتبغا لا نعرفها.
وقد يُفسر الموقف بأي شيء من هذا أو بغيره.
ولكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية.
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول عندي في مثل هذا الموقف هو أن الله عز وجل دفعه إلى هذا دفعاً؛ ليخرج عن قياسات البشر، فهو سبحانه وتعالى الذي يدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة، ولو تكرر نفس الظرف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس هذا القرار أبداً،
ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة، فدفعه إلى أخذ قرار لا يتناسب مطلقاً مع قدرات وخبرات القائد الفذ كتبغا الذي يقود جيوش التتار أبداً، وهذا من مكر رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )الأنفال (30)
🌷د.راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١١٠ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - -
💎محاصرة جيش التتار:
بدأ تنفيذ الجزء الثالث بالغ الأهمية في الخطة.
وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق، ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة من كل جوانب الميدان،بل وأسرعت فرقة عسكرية قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت،وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم
واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية،ولكن بعد فوات الأوان،فقد حصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت،وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ بصفة عامة
فلا مجال للهرب،فالسهل منبسط والمساحات مكشوفة،،فلا بد من القتال حتى الموت،وكانت حرباً ضارية بشعة،أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة،والمسلمون بفضل الله صابرون ثابتون
________
💎تراجع الجناح الأيسر للجيش الإسلامي ونزول قطز إلى ميدان المعركة:
ظهر تفوق الميمنة التترية كما أخبر بذلك من قبل رسول صارم الدين أيبك،وبدأت هذه الميمنة تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وظهر تأثر القوات الإسلامية بذلك،وأخذت ميسرة المسلمين تتراجع تدريجياً تحت الضغط الرهيب للتتار،وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية،وازداد تساقط الشهداء،وظهرت الأزمة الكبرى،
حين شاهد قطز المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين،فدفع إليها بقوات احتياطية الواحدة تلو الأخرى،ولكن الضغط التتري استمر،وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، وبدأت معنويات البعض تنهار
كان قطز يشاهد كل ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة،ولكن الموقف تأزم جداً، وهنا لم يجد قطز إلا حلاً واحداً لا بديل له، فقرر أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال، ويُثبت لجنوده بالطريقة التي اعتادها معهم أن الجهاد في سبيل الله عز وجل أُمنية، وأن الموت في سبيل الله مطلب لكل مسلم صادق، ويعلمهم بالطريقة التي اعتاد أن يعلمهم بها،وهي طريقة التربية بالقدوة،
فنزل رحمه الله إلى أرض الموقعة، ولم ينزل بهيئته العسكرية الكاملة، وإنما خلع خوذته وألقاها على الأرض؛ تعبيراً عن اشتياقه للشهادة وعدم خوفه من الموت،وأطلق الصيحة الشهيرة التي قلبت الموازين تماماً في أرض المعركة،فصرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته والجميع يسمع:وا إسلاماه! وا إسلاماه!
وألقى السلطان المظفر القائد العظيم رحمه الله بنفسه وسط الأمواج المتلاطمة من البشر، وفوجئ الجنود الإسلاميون بوجود القائد الملك المظفر قطز في وسطهم، يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون ويقاتل كما يقاتلون،فأي تأييد نزل عليهم، وأي تثبيت،وأي سكينة،
وأصبحت القضية واضحة جداً أمام الجميع، القضية قضية الإسلام،القضية قضية وا إسلاماه، القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك أو حماية لكرسي أو حرصاً على توريث لابن أو عائلة، فالقتال لله عز وجل
ويمكن أن تكون نهاية قطز ويمكن أن يموت وهو في زهرة شبابه، فهو يقاتل في سبيل الله حقيقة، هكذا شعر الجنود، وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه، والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه،
فالتهب حماس الجنود،وهانت عليهم تماماً جيوش التتار،وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة، فهي ليست هجمة على ذواتهم، بل هي هجمة على الإسلام
واشتعل القتال في سهل عين جالوت، واستحر القتل،وعلت أصوات تكبير الفلاحين على كل شيء، ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم،وقاتل قطز قتالاً عجيباً
ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز فأخطأه السهم،وأصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرس من ساعته،فترجل قطز على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له وما تردد، وما نكص على عقبيه،وما حرص على حياته رحمه الله
ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً،وتنازل له عن فرسه،إلا أن قطز امتنع، وقال:ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية.
وبعد هذه الموقعة لامه أحد الأمراء على هذا الموقف،وقال له:لم لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك،وهلك الإسلام بسببك.
فانتفض قطز وقال في يقين رائع: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة،وأما الإسلام فله رب لا يضيعه،وقد قُتل فلان وفلان،حتى عد خلقاً من الملوك، مثل: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام، فرحمه الله فقد كان وما زال قدوة للمسلمين، وعلى أكتاف أمثاله تنهض الأمم
نتيجة مثل هذا الموقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة.
🌷د.راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١١١ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎مقتل كتبغانوين قائد التتار:
ثم بدأت الكفة بفضل الله تميل من جديد لصالح المسلمين،وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار، وكان يوماً على الكافرين عسيرا
ثم تقدم أمير من أمراء المماليك المهرة من أمراء الشام الذين انضموا إلى جيش قطز رحمه الله قبل موقعة عين جالوت، من أمراء جيش الناصر الأيوبي الذي فر قبل ذلك، وهو الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله، فتقدم وأبلى بلاء حسناً في القتال، واخترق صفوف التتار حتى وصل إلى كتبغا القائد النصراني العجوز الخبير وقاتله، ورفع المسلم سيفه، ورفع الكافر سيفه، وأهوى المسلم بكل طاقته على الكافر، فأراد الله عز وجل أن يُقتل الكافر {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]
فقُطعت رقبة الطاغية المتغطرس كتبغا على أرض القتال وسقط زعيم التتار، وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]
____
💎هزيمة التتار وهروبهم من عين جالوت:
كان مقتل كتبغا نقطة محورية في القتال، وتغير السيناريو تماماً عند التتار، فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، وانطلق المسلمون الصادقون خلف التتار يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً.
وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فضاعت السمعة، وضاعت الهيبة، ومُزّق الجيش الرهيب تمزيقاً، وركز جهده على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي، واستطاعوا بعد جهد شديد أن يفتحوا ثغرة، ووصلوا بالفعل إلى الخروج من سهل عين جالوت، وبدءوا في الفرار في اتجاه الشمال، ولكن جيوش المسلمين كانت تجري خلفهم، فلم يكن الغرض أبداً في هذه الموقعة هو الانتصار في موقعة عابرة، أو تحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده أبداً، وإنما كان الغرض الواضح هو تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد في سبيل الله.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🌺المحـ١٠ـاضرة [ عين جالوت ]
∫∫ الحـ١١٢ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎معركة بيسان وإبادة جيش التتار:
كان التتار يقطعون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم، ووصل التتار الفارون إلى بيسان، وهي على بعد حوالي (٢٠) كيلو متر شمال شرق عين جالوت، فوجدوا أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد للقتال
ولتدور موقعة أخرى عند بيسان، أجمع المؤرخون على أنها أصعب من عين جالوت وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية مطلقاً
ورأى قطز كل ذلك،فهو لم يكن أبداً قريباً من الأحداث، وإنما كان في وسطها رحمه الله، فانطلق رحمه الله يحفز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته الخالدة مرة أخرى وقال: وا إسلاماه، وا إسلاماه، وا إسلاماه، قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار.
الله أكبر، ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام! فلستُ أنا الملكَ المظفر، ولستُ أنا أميرَ المسلمين، ولستُ أنا سلطانَ مصر، وإنما أنا عبدك.
ويا أيها المؤمنون الصادقون! كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله عز وجل ويتركه الله عز وجل؟ هذا أبداً لا يكون
دق قطز على الباب الذي ما طرقه صادق إلا وفُتح له، وتقرب رحمه الله إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وعندما يخشع ملوك الأرض فلابد أن يرحم جبار السماوات والأرض، وكان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار، فأهلكهم بكاملهم، فما إن انتهى من دعائه وطلبه رحمه الله إلا وخارت قوى التتار تماماً، وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان، وقضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار
وجاءت اللحظة التي انتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو يزيد،{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:٤ - ٥]
وتخيلوا أنه في موقعة عين جالوت أُبيد جيش التتار بكامله، هل سمعتم عن هذا؟! أو هل سمعتم عن مثل ذلك؟! لقد أبيد جيش التتار بكامله! ولم يبق على قيد الحياة من هذا الجيش أحد أبداً، وفني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية، وسفك دماء الملايين وخرّب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً، وانتصر الجيش الإسلامي العظيم
فهنيئاً لكم أيها المسلمون! بالنصر العظيم، وهنيئاً لك يا قطز! فقد حان وقت قطف الثمار.
ولما رأى قطز جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة، لم يفق ليتلقى التهنئة في ذلك الوقت ويرفع رأسه ويفتخر،
بل إن أول شيء فعله رحمه الله أن نزل من على فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض يسجد لله شكراً، ولم يدخله غرور المنتصرين، أو يرفع رأسه بزهو المتكبرين، ولم يشعر أنه قد فعل شيئاً، بل إن الفضل والمنة لله عز وجل، فهو الذي أنعم عليه واختاره ليكون مجاهداً، وهو الذي منّ عليه بالثبات، وهو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي، وهو الذي هداه السبيل
وهنا أيها المؤمنون! بيت القصيد،أن تعرف أنك عبد لله عز وجل، لا تُنصر إلا بنصره، ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:٤]
__
💎قطز في ميزان الإسلام:
إذا أردتم أن تعرفوا قيمة قطز في ميزان الإسلام، فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً، وكأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولاً! وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز، بل على العكس كانوا وبالاً على شعوبهم، وكانوا مصيبة على أممهم.
وهنا تبرز قيمة قطز الحقيقية، وبضدها تتميز الأشياء
ومن هنا فلا عجب أبداً أن يُنصر قطز ولا عجب أيضاً أن يُخذل غيره،والله لا يظلم أحداً أبداً،يقول تعالى في كتابه:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:١٠]فالإنسان هو الذي يختار
فلم يأت قطز في زمان تمكين ولا سيادة، ولا في ظروف طيبة ومريحة، ولم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة، بل كانت كل الظروف تقريباً ضده،لكنه استعان بالله،
وعمل بصدق وإخلاص،فكان لابد من الوصول
ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز؛سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه،وليس بالضرورة -كما تبين لنا في هذه القصة- أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود، فقد كانت عين جالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور، ولكن من الضروري فعلاً أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون، ووعد الله لا يُخلف أبداً، وقد قال ربنا في كتابه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}
[غافر:٥١]
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ١١ـاضرة:عين جالوت في الميزان
∫∫ الحـ١١٣ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎أسباب تسلط التتار على المسلمين قبل موقعة عين جالوت:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه هي المحاضرة الحادية عشرة من محاضرة قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.
في المحاضرة السابقة تحدثنا عن موقعة عين جالوت، تلك الموقعة التي غيرت فعلاً من خريطة العالم، ومن جغرافية الأرض.
والتعليقات على هذه الموقعة لا تنتهي، والدروس والعبر والفوائد والعظات لا تحصى، فكل خطوة من خطوات الجيش المسلم، وكل خطوة من خطوات الملك المظفر سيف الدين قطز رحمه الله تحتاج إلى وقفات طويلة؛
لأن موقعة عين جالوت سقط فيها الجيش التتري، الذي أفسد في الأرض إفساداً عظيماً، والله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، مع كون هذا الجيش جيشاً مفسداً إلا أنه سلط على المسلمين فترة طويلة من الزمان، مدة أربعين سنة متصلة، عاشها المسلمون في قهر وتعذيب وبطش وإجرام من التتار، وهزم فيها المسلمون في عشرات بل مئات المواقع الحربية، ثم دارت الأيام وتمت المعركة الهائلة عين جالوت، وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً حقاً، يقول ربنا في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠].
وهنا يبرز سؤالان: ولابد لمن يتوسع في هذه الأحداث أن يخطر على ذهنه هذان السؤالان، وهذان السؤالان لهما إجابة واحدة: السؤال الأول: كيف سلط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام وهي خير منه، فمهما خالفت أمة الإسلام منهجها، ومهما بعدت وقصرت في واجباتها فهي ما زالت أمة الإسلام، فلماذا يسلط الله عز وجل أمة التتار المفسدة على أمة الإسلام؟
السؤال الثاني: لماذا انتصر جيش التتار على المسلمين في كل المواقع السابقة، ثم هزم في موقعة عين جالوت وهو نفس الجيش؟ فلماذا انتصر سابقاً ثم هلك بكامله بهذه الصورة العجيبة في موقعة عين جالوت؟
إن الإجابة على السؤالين نجدها في خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العظيم الملهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب فارس في موقعة القادسية الكبرى،
فقد قال له: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احترازاً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لن نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله عز وجل يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا.
أي: كما نقول: إن التتار شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن اليهود شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نقول: إن الأمريكان شر من المسلمين، فلن يسلطوا على المسلمين، أو نصف أي عدو من أعداء الله عز وجل بأنه شر، ولن يسلط على المسلمين.
ثم قال: فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.
فاليهود لما أفسدوا في الأرض وعملوا ما يسخط الله من المعاصي، وابتعدوا عن شرعه عز وجل، سلط الله عليهم المجوس عباد النار، واليهود أهل كتاب، ومهما عصوا فهم أفضل من المجوس، ومع ذلك سلط الله عز وجل المجوس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ورسالة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه هذه من أنفس ما قال رضي الله عنه، ومن أعظم الرسائل مطلقاً، والرسالة طويلة، وقد درسناها بالتفصيل في فتوح فارس، ودراستها في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية.
ومن هذا الجزء الذي ذكرناه من الرسالة يتضح أنه إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإنهم يهزمون ويسلط عليهم الكفار من أهل الأرض.
وإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل، وساروا على منهج ربهم، ومنهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم؛ فهم لا ينتصرون على هذه الجيوش بقوة الجسد، أو بكثرة العدد، أو بكفاءة العدد، وإنما ينتصرون عليهم بارتباطهم بربهم، وبعد أعدائهم عن رب العالمين سبحانه وتعالى.
ومن هنا نفهم سبب تسلط جيش التتار أربعين سنة على المسلمين في الأرض، ثم سبب انتصار المسلمين في عين جالوت على هذا الجيش الذي دوخ بلاد المسلمين، وبلاد الأرض جميعاً عشرات الأعوام،
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ١١ـاضرة:عين جالوت في الميزان
∫∫ الحـ١١٤ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎تحرير دمشق من التتار:
نرجع لـ قطز رحمه الله، وللجيش الإسلامي العظيم بعد الانتصار الرائع في عين جالوت، فإن مهمة قطز رحمه الله وجيشه لم تنته، فما زال هناك تتار في بلاد الشام في دمشق وفي حمص وفي حلب وفي غيرها من المدن الشامية، وكذلك ما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها من بلاد المسلمين، وليست لحياة قطز رحمه الله راحة أبداً مع كثرة الشهداء والجراح والآلام.
ومع الإرهاق الشديد والمعاناة القاسية التي كان يعاني منها الجيش المناضل البطل، الذي عبر صحارى سيناء بكاملها في شهر يوليو، وحارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين بكاملها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، ثم عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض في زمانه في عين جالوت، ثم في بيسان،
إلا أن الخطوة التالية المباشرة لـ قطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت هي الاتجاه مباشرة ودون أدنى راحة إلى دمشق في الشمال، فدمشق هي أول المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، بينها وبين عين جالوت (١٥٠) كيلو متر تقريباً، ولابد من تطهير هذه المدينة العظيمة من دنس التتار، واستغلال فرصة الانكسار الرهيب لجيش التتار لتحرير دمشق وغيرها، قبل أن تأتي أمداد التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين أو من غيرها،
فأراد قطز رحمه الله القائد المحنك أن يهيئ الفرصة العظمى لجيشه؛ لينتصر على قواد التتار في دمشق، وقد كان يعلم أن جيش التتار بكامله قد فني في عين جالوت، ولا يوجد أحد ينقل الأخبار إلى دمشق بأن جيش التتار قد فني،
فقام هو رحمه الله بهذا الدور، فأرسل رسالة إلى دمشق يخبر فيها أهلها بأن المسلمين قد انتصروا انتصاراً هائلاً في عين جالوت، وأن الجيش التتاري قد دمر بكامله في هذه الموقعة،
فوصلت الرسالة لتخلق جواً جديداً تماماً على دمشق، فارتفعت معنويات المسلمين إلى أقصى درجة، وهبطت معنويات التتار إلى أدنى درجة، وقام المسلمون في دمشق -الذين كانوا تحت سيطرة التتار لا يتحركون ولا يقاومون- يدافعون عن أنفسهم بعد أن وصل إليهم الكتاب، وكان الكتاب قد وصل في (٢٧) أو (٢٨) من رمضان في سنة (٦٥٨هـ)،
فقاموا بثورة كبيرة جداً في دمشق، وانقلبوا على الحامية التتارية وقتلوا منها ما قتلوا، وأسروا منها ما أسروا، وفر الباقون إلى الشمال.
وسبحان الله! فالشعب هو الشعب، والتتار هم التتار! ولكن الوضع تغير بسماع الأخبار المفرحة التي جاءت من عين جالوت، فقد اكتشف الشعب أنه قادر على المقاومة والدفاع والحرب في سبيل الله، لما رأى القدوة التي كانت في عين جالوت، وأما التتار الذين كانوا يسيطرون على الموقف فقد سقطت هيبتهم تماماً، وما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.
وانتهى الاحتلال في دمشق في لحظات، لدرجة أن قطز رحمه الله لما وصل إلى المدينة في يوم (٣٠) رمضان، يعني: بعد يومين أو ثلاثة من وصول الرسالة، لم يبق في دمشق تتري واحد، فقد انتهت الحامية التترية التي كانت تسيطر تماماً على الوضع قبل انتصار عين جالوت، وكان انتصاراً مهيباً.
_____
💎دخول قطز والجيش المصري دمشق:
دخل قطز رحمه الله دمشق في يوم (٣٠) رمضان كما ذكرنا، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر، وكانت بالفعل أشد لحظات الفرح للمسلمين منذ أربعين سنة، وهذه هي الفرحة الحقيقية، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨]
فهي فرحة النصر بدين الله عز وجل، وفرحة الرفعة للإسلام والعزة للمسلمين، وهذه الفرحة لا تقارن أبداً بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان، وكل أنواع الفرحة في الدنيا، فهي فرحة عزة للإسلام، لا تقارن بغيرها من الأفراح.
دخل الجيش المملوكي دمشق، واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة، ولم يكن الوضع مثل ما يحدث عند دخول المستعمرين البلاد من عموم الفوضى، وترك الحبل على الغارب، وانتهاك الحرمات أمام الأعين، وانتهاب المحلات والديار، فلم يحدث شيء من هذا، وإنما استقر الوضع حقيقة وبسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم.
______
💎تولية القاضي نجم الدين أبو بكر بن السني قضاء دمشق:
قام قطز رحمه الله بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان موالياً لهم، وعين مكانه نجم الدين أبو بكر بن السني،
وبدأ القاضي الجديد يفصل في القضايا ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى، وذلك حتى لا يظلم نصراني في بلاد المسلمين، هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين وقت احتلال التتار للمدينة.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:27
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ١١ـاضرة:عين جالوت في الميزان
∫∫ الحـ١١٥ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
💎تحرير بلاد الشام من التتار وتوحيدها مع مصر:
في اليوم التالي مباشرة لدخول قطز رحمه الله إلى دمشق كان عيد الفطر، وكان أعظم عيد مر على المسلمين منذ أربعين سنة، فلم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٤٠].
ولم يضيع قطز رحمه الله وقتاً، بل أرسل مقدمة الجيش بقيادة الظاهر بيبرس رحمه الله لتتبع الفارين من التتار، وتطهير المدن الشامية الأخرى من الحاميات التتارية، حتى وصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وانقلبت الصورة تماماً، وأطلق المسلمون آلاف الأسرى المسلمين، وانطلقوا خلف التتار، فقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، ولم يفلت من التتار إلا الشريد، وهكذا حررت حمص بسرعة،
واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، وسبحان مغير الأحوال! ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال!
طهر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون أسابيع قليلة جداً، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة.
ثم جاءت بعد ذلك خطوة هامة من أعظم خطوات قطز رحمه الله، فقد أعلن قطز رحمه الله بعد هذا الانتصار المهيب توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، وذلك بعد عشر سنوات كاملة من الفرقة والشتات، منذ وفاة نجم الدين الصالح أيوب رحمه الله في سنة (٦٤٨هـ)، حيث انفصل في ذلك الوقت الشام عن مصر، حتى عاد الآن قطز رحمه الله ليوحدهما.
والشام يضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فضم الشام إلى مصر، وأصبحا دولة واحدة، وخطب لـ قطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام، وفي المدن التي حول نهر الفرات، وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.
_________
💎تعيين قطز للأمراء على بلاد الشام:
بدأ قطز رحمه الله يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين.
ومن حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث فتنة في بلاد الشام، ولاشك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، وقطز لا يخشى الآن من خيانتهم؛ لأنه تبين لهم جداً أنهم لا طاقة لهم بـ قطز رحمه الله وبجنوده الأبرار،
فأعطى رحمه الله إمارة حمص للأشرف الأيوبي الذي كان موالياً للتتار، ولكنه أظهر الندم والانكسار والتوبة وعاد إلى صف المسلمين، بل وانكسر بين أيديهم في موقعة عين جالوت كما أشار بذلك صارم الدين أيبك في الرسالة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق،
وأعطى قطز رحمه الله إمارة حلب لـ علا الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذي كان والده بدر الدين لؤلؤ من أشد الموالين للتتار، ومات منذ شهور قليلة ولكن ابنه علاء الدين أظهر الولاء والانقياد لـ قطز رحمه الله، وأظهر الحمية للإسلام، فلم يجعل قطز رحمه الله التاريخ الأسود لأبيه حائلاً عن تقليده علاء الدين إمارة حلب، فقد كان يقدر كل رجل بقدره،
وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور، الذي قاتل مع القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، واشترك منذ بداية الإعداد مع قطز رحمه الله، وعين الأمير جمال الدين آقوش الذي قتل كتبغاً كما فصلنا في الدرس السابق على فلسطين وغزة.
وأما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي، وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين وقويت شوكة الإسلام، واختفى كل تهديد يمس المسلمين من النصارى أو اليهود.
واستمر هذا الإعداد والترتيب قدر حوالي (٢٥) يوماً، وفي يوم (٢٦) من شهر شوال سنة (٦٥٨هـ) يعني: بعد حوالي شهر كامل من يوم عين جالوت، بدأ السلطان قطز رحمه الله رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة في مصر، فكثير من الأوضاع السياسية هناك تحتاج إلى استقرار وإدارة، وأصبحت دولة قطز رحمه الله تمتد من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثير من الأوراق.
ولا ننسى أن قطز رحمه الله لم يمض عليه في الحكم حتى ذلك اليوم إلا أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في (٢٤) من ذي القعدة سنة (٦٥٧) من الهجرة، وها هو يعود في أواخر شهر شوال سنة (٦٥٨) من الهجرة، فما زالت تنتظره آلاف الأعمال في مصر.
وهكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذي آلمهم في كل السنوات الماضية.
🌷الدكتور راغب السرجاني
عمر عبد الكافي
16:28
سلسلة التتار من البداية إلى عين جالوت
🎗المحـ١١ـاضرة:عين جالوت في الميزان
∫∫ الحـ١١٦ــلقة ∫∫
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
No comments:
Post a Comment
اكتب تعليق حول الموضوع